المنزع العقلي في الأدب العربي القديم: الجاحظ
1. الأهداف:
تهدف دراسة المنزع العقلي في
الأدب العربي من خلال كتب الجاحظ ورسائله إلى تبيّن الخصائص الفنية المميزة لكتابته
من جهة الحجاج، وذلك بالنظر في بنية النص الحجاجي وأوجه تنظيمه، وسيرورته
الحجاجية.
ويتأكد الاهتمام بالمنهج العلمي
وتجليات الفكر الاعتزالي في مجالي اللغة والأدب، أما المنهج العلمي فيدور الاهتمام
فيه على مظاهر الموضوعية والشك والتجربة ومقوماتها، وأما الفكر الاعتزالي فمجال
النظر فيه متعلق بكيفية الاستدلال على المسائل الفكرية والكلامية بالحجج العقلية(
النقد،الشك، الجدل، الاستقراء...).
2. حدود
المسألة:
المنزع: النزوع إلى الغاية،
من نزع نزوعا إلى أهله/، حن واشتاق، وهو يقارب نزع ينزع نزعا، نزع المريض أشرف على
الموت، ونزعت الشمس دنت من الغروب.
فالحقل الدلالي الذي تشير إليه
مادة ن/ز/ع. هو الميل والاتجاه.
العقـلي: يوسم الميل أو
الاتجاه بأنه عقلي نسبة إلى عقل.
والعقل بتعريف' لسان العرب' يحيل على عدة معان
متباينة منها المتعلق بالمحسوسات، ومنها المتعلق بالمجردات، من ذلك:
- العقل: جمع الرجل لأمره
ولرأيه، مأخوذ من عقل البعير: جمع قوائمه.
وهو أيضا حبس النفس وردّها عن
هواها، من قولهم: اعتـُقِل لسانه: أي مُنِع، وحبس الكلام.
والعقل كذلك التثبت في الأمور.
وأصل التسمية لأنه يعقل صاحبه
عن التورط في المهالك. فلا يخرج هذا المعنى عن الأخلاق.
وفي المعاجم الحديثة، العقل
ملكة يكون بها التمييز والاستدلال وتركيب التصورات والتصديقات، وهو كذلك ما يقابل
الغريزة.
ويعرّف 'محمد عابد الجابري'
العقل في كتابه 'نقد العقل العربي' باعتباره 'الملكة التي يستطيع بها كل إنسان أن
يستخرج من إدراك العلاقات بين الأشياء، مبادئ كلية وضرورية'.
فالعقل حينئذ هو الأداة المنتجة
والقوة المدركة. والتفكير هو النشاط الذهني الذي يقوم به العقل حين يبحث ويدرس
ويصوغ المفاهيم، ويقرر المبادئ وفق قواعد يعتمدها في استدلالاته. والأفكار هي
المعاني المدركة.
الأدب: يحدّد هذا المنزع بمجال
دقيق هو الأدب العربي القديم، وللأدب تعريفات شتى نحتفظ منها بمفهوم واسع له، فهو '
ما أنتج العقل من ضروب المعرفة'.
فالمسألة التي ندرس تستهدف النظر في ميل القدامى
إلى استخدام ملكة التحليل والتركيب، والاستدلال والاستنباط، من خلال ما أفرزوه من 'الأدب'
على اختلاف أنواعه وغاياته.
3. نشأة
المنزع العقلي: الشروط والظروف:
نشأ المنزع العقلي عند العرب
استجابة لحاجات عملية وتفاعلا مع متغيرات حضارية، فمن رحم العلوم الإسلامية وفي
صراع معها برز العقل مصادما للنقل، وهو ما عبر عنه ذلك
الجدل الكلامي الذي تصدره المعتزلة وتصدت له الفرق الإسلامية المختلفة.
إذ لما تأسست البصرة والكوفة في
أوائل القرن الأول للهجرة، مثلتا قاعدتين حربيتين سياسيتين ثم نشأت بهما حركة
علمية وأدبية، وعُرف علماء الكوفة بنزعتهم النقلية، يقبلون الشواهد النادرة
والروايات الشاذة، وينسجون على منوالها، في حين كان علماء البصرة يتشددون في تمحيص
ما يرد عليهم من شعر وروايات، ولا يؤسسون قاعدة على العابر من القوال بل يتثبتون
ويكثرون من الشواهد حتى يقوم القياس عندهم على أسس ثابتة.
ولقد لخص 'السيوطي' اتجاه
المذهبين بقوله: ' اتفق العلماء على أن البصريين أهم قياسا لأنهم لا يلتفتون إلى
كل مسموع ولا يقيسون على الشاذ، وأن الكوفيين أوسع رواية', فين الرواية والدراية، أو العقل والنقل، مساحة للخلاف تناسلت منه قضايا
خطيرة شغلت العلماء، فانبروا مدافعين عن حكم مرتكب الكبيرة، وهي من القضايا التي
دشن بها العقل الإسلامي خلافه، فانقدحت شرارة الحجاج، لتتجاوز حدود الفقه إلى
المجال السياسي، بحثا في مسألة الخلافة.
ولقد نشأ علم الكلام في هذا
السياق، بحثا عن ذات الله وصفاته، وفهما للنص القرآني، ودفاعا عن العقيدة. ويعرف
ابن خلدون علم الكلام بقوله: 'هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة
العقلية والرد عن المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذهب السلف وأهل السنة'.
وكان المعتزلة من أبرز الفرق الكلامية التي خاضت المعارك مع مختلف الفرق الإسلامية
وأبرز أعلام الفقه وشيوخه.
ولقد كان أهل الاعتزال يقدمون
العقل على النقل، ويوكلون له مهمة البحث في النص القرآني واستنباط الأحكام، وكان
غيرهم من المتكلمين يقدم الشرع على العقل ويعللون ذلك بقولهم لولا وجود الشريعة
لما تمكن العقل من معرفة الله وإثبات وجوده.
4. العقل
عند الجاحظ:
من مظاهر عقلانية الجاحظ ما تجلى لديه من نزوع
إلى التصنيف والترتيب والتبويب، إذ صنف الحيوانات ودرس أخبارها وقسمها إلى أربعة
أقسام : قسم يمشي وقسم يطير وقسم يسبح وقسم يزحف، وهو تقسيم اهتدى إليه عن طريق
المعاينة والمشاهدة.
ويدل هذا التصنيف على توفر فكر
منظم يرفض التشويش المعرفي، ومنهجية في البحث تقوم على وضوح المقاصد، وعمق الفكر.
فقد كان الجاحظ مصنفا للعلوم، واضعا للقوانين العلمية التي توجهه إلى تمييز الصواب
من الخطأ، وتمحيص الخرافي والعقلي.
ويمكن تلخيص منهج المعرفة لدى
الجاحظ في:
(1) وسائل المعرفة العلمية
الثلاث:
أ - الخبر القاهر.
ب- العيان الظاهر.
ج- العقل المستدل.
* الخبر القاهر: يقصد به الجاحظ
الرواية التي لا شك في صحتها من نوع ما يرويه الرواة الثقاة. يقول: 'إذا لم يأتنا
في تحقيق الأخبار شعر شائع أو خبر مستفيض لم نلتفت لفتة'.
* العيان الظاهر: ويقصد به المعاينة
والتجربة أما المعاينة فهي ترتكز أساسا على ملاحظة الحيوان في طرق عيشه وطباعه
وغرائزه. ويلخص ذلك قوله: 'وليس يشفيني إلا المعاينة'.
أما التجربة فتكون عادة لتصحيح
الخبر وتقريره إن ثبتت استقامته.
* العقل المستدل: هو الحجة النهائية
والمرجع الأخير في تصحيح الأخبار وتصويب المعاينة، لأن الحواس تخطئ. فبالعقل يكون
اليقين، ويبقى العقل المستدل السلطة الخيرة القادرة على تأسيس المعرفة.
(2) طريقة البحث وطلب المعرفة:
يعتبر الجاحظ أن امتلاك أدوات
علمية دقيقة غير كاف للبحث، بل يجدر بنا أن نحسن استعمالها ودرك سبل توظيفها، وهذا
الاستعمال سماه الجاحظ 'الشك طريق إلى اليقين'، وهو أسلوب يعتمد جملة من القواعد
يمكن حصرها على هذا النحو في:
(أ) عدم
قبول الخبر مسلما، وعدم تكذيبه مبدئيا. 'لا يعجبني الإقرار بهذا الخبر ولا يعجبني
الإنكار له'.
(ب) معالجة
الخبر لمعرفة مواطن الضعف فيه، وهي معالجة تؤدي بالباحث إلى اليقين. 'اعرف مواضع
الشك وحالاتها الموجبة له لتعرف مواضع اليقين والحالات الموجبة له'.
فالشك عند الجاحظ
منهج معلوم الحدود، لم يتخل عنه أثناء بحوثه بل مثل جوهرها.
(ج) الشك علامة من علامات وجود
العقل، بل دال هام على صحته، وقد يعود هذا إلى الاتجاه الاعتزالي.
يقول محمد عابد الجابري في
كتابه 'بنية العقل العربي': إن الجاحظ المتكلم لم يكن معنيا بقضية 'الفهم' فهم
كلام العرب وحسب، بل لقد كان مهتما أيضا، ولربما في الدرجة الأولى، بقضية 'الإفهام'،
إفحام السامع وإقناعه وقمع المجادل وإفحامه... إن ما سيشغله أساسا هو شروط إنتاج
الخطاب وليس قوانين تفسيره'.
(3) المنهج الفكري:
يتميز منهج الجاحظ بخصائص، أضحت
له مذهبا، ويمكن اختزالها في المميزات التالية:
1. النقدية: لا يكتفي الجاحظ
بعرض فلسفته الطبيعية والكلامية والجمالية والخلقية، وإنما ينتقد المذاهب الفكرية
الأخرى، كالشيعة، والخوارج،
والمرجئة، وأهل الجماعة، كما ينتقد المسيحيين واليهود والمجوس والدهرية. وطعن في
فلاسفة كبار أمثال أرسطو والنظام.
وكان الجاحظ موضوعيا في نقده،
فلا يتجنى على أحد، ولا يحاسب أحدا إلا بما فيه، أو على ما قاله.
2. الجدلية: فهم الجاحظ الجدل
بمعنى المناظرة أو النقاش الذي يدور بين شخصين يمثلان أفكارا متناقضة، ولهذا بنى
جدله على التناقض. واستخدمه كما استخدمه أفلاطون وسقراط وسيلة للكشف عن الحقيقة عن طريق احتكاك
الآراء التي يتولد فيها نور اليقين.
3. الاستقرائية: الاستقراء هو النظر
في الوقائع الجزئية لاستخراج حكم كلي عند البحث في أمر من الأمور. أو هو سير الفكر
من الخاص الفردي إلى العام الكلي.
4. الاستطرادية: الاستطراد هو الخروج من موضوع البحث إلى موضوعات
أخرى بعيدة أو قريبة منه، والجاحظ من هذه الجهة لا يحافظ على وحدة الموضوع بل يقحم
فيه موضوعات جانبية وغريبة.
5. الشكية: إن الشك الذي لازم
الجاحظ حمله على عدم التسليم بالأخبار والآراء التي يسمعها أو يقرؤها إلا بعد
الفحص والتدقيق والملاحظة الشديدة، لأنه يعتقد أن آراء الناس وأخبارهم عرضة للضلال
والكذب، كما أن الظواهر الطبيعية تخفي تحتها حقائق أو نواميس يجب البحث عنها وعدم
الاكتفاء بمعطيات الحس الخارجية.
6. الشمولية: تعني النظرة
المحيطة للكون، وعدم الاقتصار على ناحية واحدة منه وإغفال سائر النواحي. وتعني
الشمولية عند الجاحظ الثقافة الواسعة، فقد ألم بمختلف حقول المعرفة من فلسفة وكلام
ودين وطبيعيات وحيوان ونبات وإنسان وأخلاق واجتماع وسياسة وتاريخ وأدب، وقد كتب في
جميع الموضوعات تقريبا.
7. الواقعية: بمعنى الالتزام
بمعطيات الواقع المحسوس، والرغبة عن الأمور الوهمية التي لا علاقة لها بالحقيقة
والواقع.
كان الجاحظ ينطلق في تفكيره من
العالم المادي، ولا يأخذ بالخرافات والأساطير والغيبيات التي تنسجها المخيلات
المجنحة، ويهاجمها وينتقد القائلين بها.
ومن مظاهر الواقعية التزامه
بالمشاكل التي تهم عصره، والموضوعات التي عالجها استقاها من صميم ذلك العصر، فقد
قدم لنا في كتبه صورة واضحة منفصلة عن عصره من جميع النواحي الفكرية والدينية
والاجتماعية والخلقية والعلمية والأدبية والسياسية.
8. العقلانية: نعني بالعقلانية
عند الجاحظ أمرين: الأول تحكيم العقل والثقة به في جميع الأمور والثاني اللاذاتية.
أما تحكيم العقل والثقة به فأول
ما يطالعنا في آثار الجاحظ. إنه مفكر ملك ذكاء متوقدا ومنطقا سديدا تمخض عن فلسفة
وضعية للعالم لها معالمها وأصولها المميزة. وهو عقل نهم للمعرفة يحدوه فضول غريب
على النظر في الأشياء ومحاولة سبر أغوارها وإماطة اللثام عن حقائقها.
أما اللاذاتية فترجع إلى ضعف
عنصر العاطفة في كتابة الجاحظ، إذ لم يكن انفعاليا عصبي المزاج، بل غلب فيه العقل
على العاطفة حتى كاد يمحو لها كل أثر من آثاره.
الخاتـمة:
لم يكن عقل الجاحظ رغم صرامته
المنهجية و رصانته في التفكير، بمنأى عن التقصير و الوهن، لأسباب ذاتية وأخرى
موضوعية لا يجوز الإغضاء عنها، فقد كان الرجل معيبا في المستويات التالية:
- اعتمد
السماع والرواية أكثر مما اعتمد المعاينة والتجربة، حتى في أبحاثه الطبيعية كما هو
ظاهر في كتاب الحيوان، وقد يشفع له حال العلوم في عصره وما كان يعتورها من الضعف
وقلة الوسائل الاختبارية .
- يقر
الجاحظ أنه كمسلم مضطر إلى الاعتراف بما جاء في القرآن بالحج الاضطرارية نظرا
للعلة التي تقتضيه التصديق، فإذا كانت تلك صحيحة كان إقراره صحيحا، وإذا لم تكن
صحيحة أدرك أن خطأه ناتج عن التأويل، والعلة التي يعنيها هي الإيمان بالله ورسوله
وكتابه الذي يستتبع التصديق بما جاء في ذلك الكتاب.
- كثرة
الاستطراد، فتتداخل المواضيع،
وتختلط القضايا. وقد يعود ذلك إلى غزارة المعارف التي خزنتها الذاكرة، أو رغبة
الجاحظ في جذب انتباه القارئ ودفع الملل عنه.
- غلبة
الطابع الفكري الجامد في آثاره، فلا تحرك فينا شعورا ولا تثير إحساسا، ولا حضور
فيها للذات .
إن الجاحظ في نهاية الأمر، أوسع
من أن تنقص منه هذه الهنات، فقد التقت فيه ثلاث مزايا: الموهبة الأدبية، والفضول
العلمي، والفكر النير، ولذا يمكن عدّه أديبا وعالما وفيلسوفا. ولم يجتمع هذا لأحد، فقد جمع أفلاطون الأدب والفلسفة، وجمع أرسطو
العلم والفلسفة وجمع سارتر الفلسفة والأدب، أما الجاحظ فجمع العلم والأدب والفلسفة.
شكرا حقا مفيد وشامل
RépondreSupprimerعمل ممتاز
RépondreSupprimerسليم مشكورين
RépondreSupprimer